في زمن سابق من تاريخ إمبراطورية الفتوحات الإسلامية، التي كانت حدودها التاريخية حيث وصلت حوافر جيادها وسروج فرسانها وليست حيث جغرافية العِرّق أو التراب، وفي زمن الدولة الأموية وما تعني من لسان حالٍ، لتمدّد حضاري جمع بين قوة ومقوّمات العروبة، حين تضحى، تلك القوة والمقوّمات، إرادة دين وفحوى رسالة من السماء حملها خير الأجناد رايات على رؤوس العالم، في ذلك الزمان البعيد، الذي تسميه الحضارة الغربية ومفكروها اليوم بالعصور الظلامية الوسطى، رغم أنها العصور التي بسطت بنورها على عالم كان ملفوفا في عمى الظلام بأوروبا، قُلنا في ذلك الزمن الأموي السالف العصر والأوان، حيث الحضارة بغداد والشام وأم القرى، فيما الحظيرة روما وفرنسا وغيرهما من ممالك القساوسة والباباوات، يُروى، أنّ شاعرا معروفا قتل أحدهم في معركة خصام بين طرفين، وحين اقتادوا القاتل إلى ساحة القصاص، جراء جريمته، هرعت قبيلته لجمع “دية” خرافية لإنقاذ ابنها من مصير القتل، لكن قبيلة الضحية رفضت أيّ تفاوض على العفو أو التنازل عن حقّ القتيل في القصاص، سوى أحد أبناء القتيل، فإنّه دخل في أخذ وردّ مع أهل الجاني بعد أن أسال حجم “الدية” لعابه، لتستدعيه أمه، وما إن وقف أمامها حتى قطعت كلامه وهو يحاول مراودتها على قبول التعويض بقولها: أقسم بالله، لئن قبلت الدية لأتزوجن قاتل أبيك، فيشار إليك بالبنان قائلين: قتل أباه ونكح أمه!
حين بلغ الأمر الخليفة الأموي ضحك مفتخرا، بهكذا أم، بل بهكذا أم جسّدت شرف أمة في نخوة سيدة من مجتمعه، وقال قولته الشهيرة: نحن لم نفتح العالم اعتباطا، ولكنه بهكذا مجتمع وهكذا رعايا كان البنيان وكانت الخلافة، فلا تسامح مع دم ولا مقايضة في الشرف والعرض، مهما بلغت مغريات التعويض..
مناسبة تلك القصة التي تعبّر عن حدود وتاريخ وجذور دولة وحضارة كان بنيانهم كرامة إنسان، أنّ الدول، قبل أن تكون صولجان وتيجان حُكم، فإنّها مجتمعات تؤسّس لبنيانها من القاعدة، لتكون هي “ساسها”، لذلك، فإنّ الأصل في القرارات والتحوّلات السياسية للدول، هي الثقافة المجتمعية التي تعني أنها الوجه الحقيقي لأي منظومة حُكم، وطبعا، قبل أن تتكلم عن قوة وسيادة وقرار أي دولة على مستوى محيطها الإقليمي، فعليك أولا أن تسأل عن حال مجتمعها وحجم الوعي الذي يحمل، فالممالك والدول والحضارات، ليست حدودا جغرافية ولكنها سقف إنساني، تمثّله المجتمعات المكوّنة للدول ومدى وعيها بدورها المحوري في تأسيس الأمم بعيدا عن كونها “كرة” أو مباراة كرة في ملاعب التصفيق والرقص على ناصية الدجل والعبث ةالتغييب..
حين نرى حالة الترهل والغياب الذي تعيشه المجتمعات العربية اليوم، وحين نعرف لأي حد وصلت إقالة الناس من دورهم كمكوّن للدولة وليس كقطعان، ترعى بها إرادة الحاكم، حينها، نفهم، أنّ الأمة ما كان لها أن تصل لهكذا هوان ومذلّة وانبطاح، لولا أنّ الأنظمة الحاكمة في الأقطار العربية، استطاعت أن تدجن “العوام” وتجعل منهم “خراف” زريبة، أينما أرادها الحاكم رَعْيًا رعت، لتكون نهايتها، تاريخ مهجن عنوانه، أن قبلت الشعوب بمآل التعايش مع من قتلوا أباها ونكحوا أمها، ورغم ذلك لا زالت الحياة مستمرة ولا زال العار العربي، بيومه هذا، أن من قتل الأمة نكح وجودها، والجميع راض وقابل ومستكين لصفقات الرعي مقابل التنازع عن أي وعي..
الحقيقة التي لا يجب القفز عليها في واقعنا المزري كأمة بلا قرارات ولا سيادة من المحيط إلى الخليج، أن كل ما تعيشه قصور الحكام والملوك والأنظمة من خذلان وخيانة وقابلية للاستعباد والركوع والمهانة، ليس سوى ارتداد “مجتمعي” عما يحدث في القاعدة من خنوع، فلولا أنّ “المذلة” كانت تربة مجتمعية على مستوى القاعدة لما تجرّأت القمة من حكام بلدان وديار على التحرّك بأريحية “من قتل أباك ونكح أمك”، فالضعف المستشري في العروش العربية وصفقات رهن وبيع الأمة من طرف الحكام، مردّهما أنّ الشعوب العربية، غابت أو تم تغيّبها للدرجة التي لم يعد لها من وجود إلا من خلال يوميات رعيها “البهيمي” المكرّرة، والمؤكد في أسباب سقوطنا، كتاريخ وكأمة وكقرارات سيادية، كانت محور العالم يوم كانت الأمة هي إرادة الشعوب التي يجسّدها حاكم، إنّ الأمة ضاعت يوم مات ذلك الشيخ الذي قال لأولاده: “أقتلوا من قتل الكلب!”..
حكاية، اقتلوا من قتل الكلب، لا تختلف عن حكاية، لأتزوّجن قاتل أبيك، فيقال، قتل أباه ونكح أمه، والقاسم المشترك بينهما، أنه كما الأم فهمت معنى الشرف والكرامة اللتين لا “دية” لهما، فإنّ الشيخ الذي قال لأولاده، اقتلوا من قتل الكلب، كان يعلم أنّ من يتسامح في دم كلب، سيتنازل عن شرف وأنف ودماء قبيلة فأمة، ومختزل القصة، أنّ شيخ قبيلة صحا على صراخ أبنائه وهم يعلنون بأنّ أحدهم قتل كلبهم الذي كان يحرس القطيع والخيم ومرابض القبيلة، فما كان من الشيخ، إلا أن جمع أولاده، وطلب منهم بشكل واضح وصارم، أن اقتلوا من قتل الكلب حالا، ورغم جدية العجوز في طلبه ذلك، إلا أنّ أولاده تجاهلوا أمره، ليفاجئوا بعد يومين بسرقة قطيع الغنم، وأمام صراخهم، خرج الشيخ من خيمته، ليقول لهم: اقتلوا من قتل الكلب، لكن أولاده، تهامسوا فيما بينهم متهمين الشيخ بالخرف والخبل، وخاصة أنهم كانوا يحدثونه، عن سرقة القطيع، وهو يحدثهم عن “قاتل” الكلب، ولسان حالهم، كيف لهم أن يقتلوا إنسانا بدم كلب، لتحدث الصدمة بعدها بأيام، بعد أن انتهك اللصوص حرمة القبيلة وخطفوا ابنة الشيخ في نوم أبنائه، حينها كرّر الشيخ مقولته الشهيرة، متجاهلا كل الصراخ والخوف الذي اعترى عائلته وقبيلته، وبلغة الواثق، قال لهم: اقتلوا من قتل الكلب!
غرابة الطلب واستخفاف بعض أبنائه به وسط ذلك الجو، لم يمنع أحد الإخوة، من البحث عمن قتل الكلب، ليقتله، وذلك في تنفيذ لأمر الشيخ، لتكون المفاجأة، أنه بمجرد أن انتشر الخبر في الربوع عن قتل أبناء الشيخ لشخص في دم كلب، حتى صُدمت القبيلة باللصوص الذين سطوا على قطيع أغنام الشيخ وهم يعيدون ما استولوا عليه، خوفا من ثأر مجنون طال قاتل كلب فما بالكم بمن سطا وانتهك حرمة قبيلة، ليتكرّر مشهد الخوف والرعب القادم من دم الكلب، وتحط القافلة التي أغارت على ابنة الشيخ رحالها بالقبيلة، طالبة عفوا وكذا يد الابنة المخطوفة لابنها، كتكفير عن الذنب، وكل ذلك، لقناعة تامة لدى أفرادها، أن من لم يسمح في دم كلب، لن يسمح في شرف وكرامة ابنته، والنتيجة مما سبق، أننا كنا أمة يوم قال الشيخ لأبنائه: اقتلوا من قتل الكلب.. أما اليوم، فإننا الأمة التي لا حكامها يمتلكون الشجاعة والنخوة على الثأر ليس لكلابها ولكن لرعاياها، ولا شعوبها تمتلك الشجاعة لأن تصرخ في سلاطينها، على أنه ليس من حق الأنظمة والحكام أن يقايضوا دماء قتلاها بصفقات نهايتها أن تُنكح الأمة في وجودها وتاريخها، لتكون الأمة التي أنكحت مصيرها لمن قتل حاضرها وانتهكت ماضيها..
آخر الكلام ومنتهى الخطاب، سنكون الأمة التي كانت، يوم نستعيد جرأة أنّ من يحرق لك سفينة ليرعبك فاحرق له الميناء، ليفهم أنه إذا كان حدود البقاء عنده استعراض قوة الرعب، فإنّ حدود الشرف عند الأمة لا سقف له، ما دام العنوان الثابت في تاريخ السابقين، أنّ لا حياة بلا شرف ولا وجود بدون كرامة..
- التحرير /أسامة وحيد