بغض النظر عن إيماني المطلق بفكرة فلسطين من النهر الى البحر، لأن منطلقها عقائدي لا يخضع لمساومات السياسة، من المهم ألا نغلق رؤوسنا كلية، وننظر الى الضفة الأخرى من الأمر وفق حركية “منطق الدولة”، وهو منطق يضع في الاعتبار عودة ترامب الذي منح القدس عاصمة للكيان، وصاحب الاتفاقيات الابراهيمية، التي أدخلت جارنا محمد سكس خلال عهدته الأولى في جريمة التطبيع، وها هو يعلن الآن صراحة مع بداية عهدته الثانية أن هدفه الأكبر، من خلال طعم وقف الحرب في غزة، هو درة التاج الإسلامي السعودية لإدخالها حضيرة التطبيع، ليصطف بعدها الجميع، طائعين أو مرغمين لأداء تحية شالوم.
الجزائر المعروفة بمواقفها الرافضة للتطبيع تدرك اللعبة القادمة جيدا، وتعرف أنها ستكون أول المستهدفين بعد إسقاط السعودية في الفخ، خاصة وأن المبادرة العربية للسلام للعام 2002، حول حدود 67، هي مبادرة سعودية أصلا، ولذلك فإن من يتعمق في تفاصيل مذكرة التفاهم الأمريكي الجزائري الذي حدث بعد وصول ترامب، سيجد أن فيه الكثير من ملامح المرحلة المقبلة، المتسمة بمعادلات التراجع الروسي بعد الحرب في أوكرانيا، مع ضرورة إيجاد توازن يضمن مصالح الجزائر في العلاقات بين موسكو وواشنطن.
ولذلك يمكن أن نأخذ تصريح الرئيس تبون الذي أثار كل هذه الضجة العاطفية المفهومة، باعتباره موقفا استباقيا لسقوط المبادرة العربية السعودية في الماء، عبر الإعلان عن التمسك بها كشرط لأي خطوة مستقبلية، ما يجعلها في حالة دخول السعودية وتوابعها الصف، الدولة العربية الوحيدة التي ستقف ضد المخطط الترامبي الجديد لجرجرة الجميع نحو اسطبل التطبيع، وذلك عبر التمسك بمطلب الدولة الفلسطينية في حدود 67 ، وبالشرعية الدولية، كتكتيك حتمي لمواجهة ضغوط العالم وخيانة العرب، وبالتالي إحباط المؤامرات المتوقعة والتحالفات الخبيثة التي بدأت تحاك ضد الجزائر حفاظا على أمنها القومي.
ولكي نحسن الظن، ولا نذهب بعيدا في شطط اتخاذ المواقف العاطفية، يمكن التماس بعض التفهم لحركية منطق الدولة الذي لديها معطيات اللعبة الدولية، لكن على أساس فهم واضح أن الجزائر في النهاية لن تطبع أبدا، وإنما هي تواجه مخططات تحويل الجميع إلى زريبة صهيونية، بإعلان مواقف استباقية صلبة، تدعمها الشرعية الدولية والموقف الفلسطيني وحتى الحمساوي والمقاوم، استعدادا لمرحلة ما بعد التطبيع السعودي المرتقب.
ومع كل هذه النقط التي قد يلجأ البعض بالتأكيد إلى تصنيفها ضمن المنطق “التبريري”، وأن فرفارة بوتبريرة قد تحركت بخصوص ما تراه الدولة مناسبا للأمن القومي الوطني، إلا أنه من المهم على الشعب الجزائري، أن يواصل اعتراضه بشدة على طرح فكرة “التطبيع” أصلا، ولو بالشروط المعلنة، لأن الشعوب بطبيعتها غير ملزمة ولديها منطقها الخاص الذي تتحرك من خلاله، كما يمكن لهذا الرفض الرائع أن يكون رافدا قويا داعما للموقف الرسمي لمواجهة الضغوط الخارجية، وبالتالي إرسال رسالة لمن يهمه الأمر، أن “جس النبض” الشعبي في الجزائر حول هذه القضية تحديدا حار وسخون وحارق جدا.