أنت أخي لأنك ابنُ أبي.. أنت ابن عمي لأن أبي أخو أبيك.. أنت ابن خالتي لأنّ أمهاتنا إخوة.. أنت ابن بلدتي .. أنت بن ولايتي.. انت ابن وطني أنت بن قارّتي .. إلى أين نصلُ بهذا المنطق؟ لو أنّ هناك ساكنا في المريخ لكان بن مجموعتي الشمسيّة.. ولو كان هناك ساكنا في مجموعة شمسية أخرى لكان بن مجرّتي.. في النهاية سنصلُ جميعا إلى آدم، فكلّنا أبناء آدم.. غير أنّنا نبالغ في الاعتزاز بما لم نختره ونبالغ في معاداة ما لم يختره غيرنا..
قد يسألني سائل منكم : لكن من أنت ؟!
ماذا؟ من أنا !! كيف تجرؤ؟! لكن لم لا؟ قد يكون سؤالا معقولا جدا!!
إذن من أنا؟!
في الحقيقة أنا، وعلى ذكر كلمة أنا، لست ممّن يتعوّذ من ذكر كلمة أنا، فلست مضطرا دوما للحديث باسم الجماعة.. عليّ أن أعتزّ بذاتي أنا.. لا ذات فلان وعلان، صحيح أنه عليّ أن أنكر ذاتي على مستوى التعاملات والمعاملات والعلاقات العامة مع المحيط ومع الأسرة، صحيح أنّه عليّ أن أنكر ( أنا ) في كثير من الحالات الضرورية، لكنّه ليس عليّ أن أنكرها حين يكون الأمر مرتبطا بقناعاتي وتصوراتي للدّين والدنيا، فسأقف أمام الله وحدي ولن ينفعني حينها لا مجتمع ولا أب ولا إمام ولا شيخ ( وكلٌّ آتيه يوم القيامة فردا).
من المهم أنّك سألتني من أنت.. في الحقيقة هذا الذي يقف أمامك ليس أنا، فهذا الوجه والملامح ليست من اختياري أبدا.. لقد ورثتها، لغتي ليست من اختياري.. فقد تعلمتها، لم أختر طولي ولا شكل جسدي، لم أختر ديانتي ( والحمد لله على نعمة الاسلام) ، هؤلاء إخوتي، إنهم الأكثر قربا من الناحية العائلية، لكنّني لم أخترهم أيضا، والدليل على أنّ هذا الوجه ليس أنا هو أنّك يمكن أن تجد تشابها كبيرا بيني وبين إخوتي.. لم أختر أبي ولا اخترت أمّي، وبمناسبة أنّك ناديتني باسمي فأحبّ أن أؤكد لك أيضا، بما لا يدع مجالا للشكّ.. أنّي لم أختر اسمي أيضا، تخيّل.. حتّى اسمي ولقبي لم أخترهما..! فأنا مثلك وجدتُ الناس ينادونني باسمي فعرفت اسمي من خلال الناس، حتّى وطني لم أختره، ولدتُ في هذا المكان فتعلّقتُ به، ولو ولدت في مكان آخر لتعلقت بالمكان الآخر..
قد تسألني مرة أخرى : لكن من أنت؟!
من الواضح أنّك قد توترت قليلا.. لا يمكن أن أشرح لك من أنا، فـ(أنا) ليست تعريفا بقدر ما هي فكرة، لن تعرفني لأنّي لا أستطيع أنْ أشرحَ لك ما لا أفهمه، ولا أستطيع أن أقدّم إسما ولقبا وملامح وجه وصفات ليست من اختياري على أنها هي (أنا)، ثم أنّ هناك مشكلة أكثر.. وهي أنّك تمتلك تصورا حولي، فهل أقول أنّ تصورك حولي هو أنا بالنسبة إليك..؟ وتصور آخر حولي هو أنا بالنسبة إليه؟ كيف سأشرح لك ما لا يمكن شرحه إطلاقا.. فمن أنا..؟
إذا لم أكن أنا هو ما لم أختره من اسم ولقب وجسد وملامح.. فهل أنا كلّ ما اخترتهُ وما سأختاره ؟! ثمّ ما مساحة ما يمكن (اختياره) في بيئتي؟! هل هناك اختيارات كثيرة تجعلُ منّا مختلفين عن بعضنا البعض بحيث يمكنُ أنْ يشكّل كلّ فرد ( دالّة تعريفه)، وبالتالي تكون (أنا) قويّة جدّا ومؤثرة في المجتمع؟! أم أنّنا أمام حيّز ضيق جدّا من الخيارات، وأنّنا جميعا عبارة عن فكرة واحدة تسكنُ أسماءَ ووجوه الجميع.. ؟؟!!
أعتقدُ أنّي أميل إلى أنّ (أنا) هي كل ما اخترته من افعال وسلوكات وقيم وأخلاق، سواء كانت موافقة للجميع أم كانت مخالفة لهم، فالذي يهمني هو أنّ (أنا) هي ما تجعلني مختلفا عنك في القيم والسلوكات والقناعات والأفكار، ولن نكون أنا وأنت (نحن) إلا إذا قبل بعضنا البعض، ورسمنا مساحة صغيرة بيننا( القانون) نترك فيها كلّ الاختلافات لنتفق فيها، ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، قال عز وجل لــ (تعارفوا)، لم يقل لـ (تتعرفوا)، فالتعارف غير التعرف، التعارف هو أنّه إذا كانت تصوراتنا وأفكارنا مختلفة فلنضع مجموعة من القوانين والتشريعات نلتزم بها جميعا دون أنْ ألغي ذاتك ودون أن تلغي ذاتي، وإنّ أيّ محاولة بالقوّة من طرفي أو طرفك لتقنعني أو أقنعك بدين أو فكرة أو أي أمر آخر، هي في الحقيقة تعدّي واضح وسافر عن هذه الـ (أنا).
نسيتُ أن أضيفَ.. أنّ اسمي ولقبي وملامح وجهي مهمّة في أن تتعرّف إليّ وأتعرف إليك.. ونتعارف إلى قوانين ونظم تحمينا من الـ (أنا الحقيقيّة).. تحمينا من أفعالنا وسلوكياتنا الخاطئة.. في النهاية هذه (الأعراف) هي المساحة الصغيرة التّي نحتاجها لنتعايش ونتجنب كلّ الكوارث التي تنتج عن الاختلاف.