أكون قد مارست مسؤولية رئيس التحرير لأكثر من ربع قرن وكنت في ريعان الشباب أصغر رئيس تحرير، وكنت مثل الفراشة أنتقل من جريدة إلى أخرى كما يصفني الشاعر سليمان جوادي أو بالبدو الرحل كما كان يصفني الشاعر المرحوم أبو القاسم خمار، وحين دعاني المرحوم بشير حمادي مدير تحرير جريدة الشروق اليومي راح يفرض علي منصب رئيس التحرير، والأغرب من كل ذلك عندما دعاني الدكتور المرحوم أستاذي عبد العالي رزاقي إلى إحدى حصصه التطبيقية مع الطلبة في فنيات التحرير في كلية الإعلام، راح يكتب على السبورة إسمي ويتبعه بعبارة رئيس التحرير، وقال للطلبة: إن رئاسة التحرير بالنسبة إلي ليست صفة ولكنها مهنة، وإنني لم أخلق إلا لرئاسة التحرير!..
إنني ها هنا لا أتكلم بنوع من النرجسية، ولكنني أتحدث بمرارة عن تجربتي المهنية وسيرتي الذاتية، ومن الطبيعي أن أكتب بشيء من الذاتية والتي لا تتنافى أبدا مع الموضوعية ولا مع المهنية ولا مع الاحترافية، وقبل كل ذلك مع أخلاقيات المهنة الصحفية.
لقد ودعت قاعة التحرير بالاستقالة من رئاسة التحرير بدار الصحافة بأعالي مدينة القبة قبل أن ألتحق بالقبة البرلمانية في قصر زيغود يوسف، وطيلة عهدتي البرلمانية لم يكن زملائي النواب يحسبونني منهم مثلما لم يكن زملائي الصحفيين يحسبونني منهم، على الرغم من أنني قد كنت أغادر مقعدي البرلماني وأجلس بمقعدي في مقصورة الصحفيين وكأنني كنت أريد أن أكسر ذلك الحاجز الزجاجي بين الصحفيين والنواب تحت قبة البرلمان. وعندما غادرت قبة البرلمان دعاني الدكتور العربي ولد خليفة إلى مداخلة أمام الصحفيين، كانت المداخلة تحت عنوان: أنتم النواب أيها الصحفيون!!!…
لم أعد إلى قاعة التحرير، ولقد رفضت الكثير من العروض المهنية من الجرائد اليومية ومن القنوات الورقية بعد السماح بالتعددية في المجال السمعي البصري، حتى أنني في إحدى الليالي قد رأيت في المنام أنني قد عدت إلى رئاسة التحرير، ولله الحمد أنني قد استيقظت من النوم، ولم يكن الحلم سوى كابوس من كوابيس النهار!!!…
أعترف في نفسي أنني قد قتلت رئيس التحرير عندما رفضت أن أعود إلى قاعة التحرير وخاصة إلى رئاسة التحرير، والسبب الذي يكون قد جعلني أرفض العودة إلى دار الصحافة، هو أن الصحافة قد أصبحت مهنة من لا مهنة له وسادت الردة والرداءة وتفشت الفوضى والتي كثيرا ما كنت أسمهيها بالفوضى الإعلامية الخلاقة، ذلك أن الصحافة طيلة العشرين سنة لم تكن تحتكم فيها الممارسة الإعلامية لا إلى الضوابط القانونية ولا إلى الأخلاقيات المهنية التي تنص عليها التشريعات الإعلامية، حتى أصبح كل من هب ودب يتحول إلى صحفي وكل من هب ودب يترقى أو يرقى إلى منصب رئيس تحرير، بل أصبح كل من هب ودب يؤسس جريدة دون أن تتوفر فيه الشروط القانونية!!!…
إن الفوضى الإعلامية الخلاقة التي أصبحت عليها الجرائد الورقية والقنوات التلفزيونية، تؤكد أن قاعات التحرير قد أصبحت بلا رئيس للتحرير، فالجريدة لم تعد تحتاج سوى إلى تقني ولا أقول إلى مركب مثلما لم تعد القناة التلفزيونية تحتاج سوى إلى تقني أيضا حتى لا أقول إلى مصور إلى إلى حامل كاميرة، في أغلب الظن هي كاميرة أعراس!!!..
تكون الصحافة التقليدية من جرائد ورقية وقنوات تلفزيونية قد فقدت تأثيرها على المجتمع والسلطة معا، خاصة بعدما تكون الصحافة قد انتقلت من الواقع إلى المواقع من خلال الصحافة الإلكترونية، بل إن الصحافة لم تعد تؤثر في الواقع بل إن الواقع قد أصبحت تؤثر فيه المواقع، حتى أننا لم نعد نصادف في المقهى أو في الحافلة أو في القطار أو في الميترو أو الترامواي شخصا يقرأ جريدة، مثلما لم يعد في البيت أي شخص يشاهد التلفزيون أو يستمع إلى الإذاعة لو لم يكن في السيارة، فلقد انقرضت الجريدة وانتهت الإذاعة وانتهى التلفزيون، ولربما تكون قد أصبحت الجريدة أو الراديو والتلفاز من الآثار القديمة التي يجب أن توضع في المتاحف الأثرية!!!…
يستطيع كل من هب ودب إلا من رحم الله، أن ينشىء صفحة تواصلية، ولم يعد من الغرابة أن تصبح الصفحات التواصلية أكثر تأثيرا في القراء من الجرائد الورقية، وليس من الغرابة أيضا أن يصبح كل من هب ودب ينشئ قناة تلفزيونية على المواقع لتصبح هي الأخرى أكثر تأثيرا في المشاهدين من التلفزيون !!!…
لقد آلت مهنة الصحافة في زمن المؤثرين إلى مهنة من لا مهنة لهم، ولقد أصبح هؤلاء المؤثرون هم الذين يصنعون الرأي العام في زمن التفاهة والرداءة والردة عن الأخلاقيات المهنية والتمرد على الضوابط القانونية، وهم الذين يتقدمون المشهد الإعلامي وهم الذين يكرمون في مناسبات أعياد حرية الصحافة!!!…
ها قد مات رئيس التحرير ولتمت أيها القارئ، فإنني قد مت قبلك!!!…
كل التوفيق