مرت ثلاث سنوات عجاف يا حبيبتي مذ انطفأت شمس عيونك عن سمائي، وها إني أحاول أن أكتب لك هذه المرة، بعد أن انتحرت الكلمات في يدي إثر رحيلك القاسي، فهل تسمحين لي أن أغطيك كما كنت أفعل في ليالي الشتاء الباردة بحبي، وأن أمسح على شعرك الغجري وأنت نائمة ها هناك على قبر أحزاني؟.
حبيبتي .. يا طفلتي الشاعرة، أنا بعدك لست بخير أبدا، لست بخير حد الوجع والأنين، فقد جف الرحيق في حلقي، وتلك المزهريات التي كنت أصنعها للصبايا انكسرت، وجدران بيتنا الصغير تبكي، وكل الأشياء الجميلة التي اشتريناها معا شاخت من حزنها عليك، حتى المرايا البيض، تلك التي تتلألأ من نور عينيك انطفأت، فلا وجهك الغالي ها هنا وطنا، ولا بعض ملامحك البريئة تهديني الأمان.
أذكر يا حبيبتي أنك تزوجتني ولم تكملي العشرين، ولم يكن في جيبي درهم واحد أو دينار، وأنك نمت على الأرض معي ملتحفة عطري وبعض الأشعار، وأنك جُعت وما اشتكيت، وأنك تعبت وما مللت، وتحملت طيشي وجنوني، وتحملت حماقاتي وخياناتي وفوضاي، فكنت لي سكنا قبل السكنى، ووطنا قبل الموطن، وأنه كلما عثرت رجلي في وعثاء الحياة، مددت لي طرفا من نور ابتسامتك الحلوة، فأنهض متشبثا بتلك الرموش الدافئة لأواصل الطريق.
كان وعدك الحر، هو الحب حتى الموت، الوفاء حتى الشهادة، ويوم سمعت بأن المرض الخبيث قد بدأ ينهش في عظامك ولحمك فجعت، لكنك كنت أقوى من الموت، بالحب الكبير الذي حملته لي ولأولادنا، قاومت سبع سنوات كاملات، بينما كان الأطباء يتحدثون عن ستة أشهر أو عام على الأكثر.
عندها فقط، أدركت أني بعدك سأضيع، فمن لي بعدك بامرأة، تملأ في حضورها الأرجاء، وتصنع بغيابها العدم، تفهمني بنظرة حين أقول وقبل أن أقول، تغطيني في الليل إذا تعريت، كما تفعل الأم مع وليدها، وتمسح على شعري وهي تغني لي بصوتها الملائكي أغنيات “هايدي” و”فلة” و”هيا يا حنين” وبيننا ابنتنا حنونتنا الصغيرة.. كي تنام وأنام؟.
من لي بامرأة صاخبة في الحب، هادئة في العطاء، ينسكب الشعر من أنحائها كأنما ينسكب الياقوت، ويتدفق الوفاء من أرجائها كأنها حورية مقصورة في الجنان، إذا جلست تأكل أطعمتني قبل نفسها، واختارت لي أروع ما عندها، حتى إذا مدحتُ صنعتها، وأبديت إعجابي بطبيخها، وشكرت ما قدمت، طارت لأيام فرحا بما قلت لها، وشعرت أنها نالت جائزة لم تنله امرأة قبلها ولا بعدها.
فهل تذكرين يا رفيقة عمري، أني في المقابل ما رددت لك طلبا أبدا، وأني كنت أحضر ما ترغبين فيه من دون إيماءة منك، وأنك ظللت عمرك كله تستغربين ذاك “التيليباتي” الذي يخبرني بأي شيئ “تسخفي عليه”، وإذ به يكون أمامك، كأنما ملائكة الرحمن تتولى إخباري برغبتك كي ألبي، فتراني في كل مرة أسابق فرحتي إليك حاملا البشرى، فتضحكين وتقولين “كان على بالي”، “سبحان الله كان في خاطري”، فتسألين وتسألين من أخبرك بهذا يا حبي؟ فأجيب أخبرني قلبي يا قلبي.
لكنها الدنيا يا حبيبتي لا تدوم لحي، وكان علي وأنا أتفحص تفاصيل مرضك الخطير، أن أقرر كيف أكون رجلا من جديد، أن أعيد صياغة أحلامي معك، بحيث أموت أنا في اليوم ألف مرة ولا تشعرين، وأن يكون وقوفي إلى جانبك في هذه المحنة التي قدرها الله، من باب الحب والاعتراف بالجميل لا من باب الشفقة، فما تركت معك طبيبا أو مستشفى إلا وأخذتك إليه، ولا سمعنا بعشاب أو راق إلا قصدناه، فلم يكن مسموحا في عرفنا أن ينطفئ النور الذي كان في عينيك بسهولة، أو أن نستسلم في محاولتنا اقتناص اللحظات الجميلة.
وإذ أنسى فلن أنسى أبدا يا صغيرتي، كيف كنت تتكئين على كتفي ونحن نسير من طبيب إلى طبيب، وكيف كنت تمسكين ذراعي كما لو أنه حبل نجاة، وكيف كنت تطلبين مني السماح على تعبي، ولسانك يلهج بالدعاء لي بأن يرزقني على قدر قلبي الطيب، وكيف كنا ننتقل من العاصمة إلى باتنة من أجل دورات العلاج الكيماوي والاشعاعي، وكيف كنت تنطفئين شيئا فشيئا أمام أعيني، وعبثا كنت أحاول أن أداري دموعي عنك، لكنك كنت تبتسمين فرحا بهذا الحب، وتقولين أنك لست حزينة أبدا، “فإذا مت فأنا سأبقى حية في قلبك”.
لم يكن يهمني يا حبيبتي والمرض يستشري في جسدك المنهك، بمرور الشهور والسنون، خاصة بعد أن وصل المرض إلى الرأس، سوى أن أقوم بكل ما علي في مواجهة القدر، وأن أستنفذ طاقتي في أداء ما علي من واجب، حتى لا أعيش بعدك بأي شكل من أشكال تأنيب الضمير، حتى وأنت تعرضين علي صابرة محتسبة الزواج بأخرى، بعد أن طالت مدة المرض، لإدراكك أن وضعي النفسي بات صعبا، كنت أصر أن لا أبدي أي اهتمام بالأمر، حتى لا أجرح مشاعرك الرقيقة، وكم كانت ابتسامتك تلمع وعيونك يغمرها الفرح، وأنا أردد عليك أن ما بيننا هو حتى الموت، وما بعد الموت أيضا.
كنت يا صغيرتي متمسكا مثلك بالأمل حتى آخر لحظة، لكن حين تدهورت صحتك بشدة، وكنت حينها راجعا بك من باتة إلى العاصمة، وعند توقفنا في بيتنا في البرج، رأيت بأم عيني أن النهاية قد أزفت، فقد كان والدي رحمه الله ينتظرنا رغم مرضه خارج المنزل على غير عادته، وعندها حدث ما لم أكن أتوقع، فقد سلم والدي عليك وزاد أن قبل رأسك بعد أن قبلت أنت رأسه، وهو الذي لم يفعل شيئا كهذا في حياته مع أي أحد لا مع أولاده ولا غيرهم، فأدركت أن أمرا جللا سيحصل قريبا، ولم نلبث أن توفي والدي رحمة الله عليه بعدها بأيام فقط، لتلحقي به أنت بعد ذلك بثلاثة أشهر فقط.
في تلك الأشهر الثلاثة، كان نداء الموت والنهاية قد اقترب كثيرا، وكانت نوبات الغيبوبة تنتابك بين الفينة والأخرى، ولك أن تتصوري حجم الخوف والحزن في بيتنا حينه، وكيف كان أولادك يرتجفون هلعا وأنا بينهم كالطائر المبلل، لا أدري هل أهتم بك أم أهتم بالأولاد؟ كانت سيارات الإسعاف لا تتوقف عن بيتنا، وطوال تلك الفترة، ورغم محاولاتي الحثيثة واتصالاتي، رفضت مستشفيات العاصمة كلها استقبالك لأن الحالة ميؤوس منها كما يقولون، كنت حينها أهيم كالمجنون من مستشفى إلى أخر، ومدة الغيبوبة بدأت تطول وتتكرر كثيرا، إلى أن قررت في النهاية إعادتك إلى مستشفى باتنة أين أجريت آخر عملية في الرأس، على أمل أن يسعفوك، في رحلة شاقة بدأت من يومها رحلة العذاب الكبير والأخير، حيث رفض مستشفى باتنة بدوره تقديم العلاج لكون الحالة ميؤوس منها، فاضطررت للبقاء معك في الاستعجالات لأيام وليال طويلة، لم أذق خلالها طعم النوم إلا إغفاءات قصيرة، فقد كان علي أن أبقى مستيقظا بالليل والنهار خشية أن تستفيقي وتنزعي أنبوب التنفس دون وعي منك كما حصل عدة مرات من قبل، وأذكر أن ما جعلني أصمد كل ذاك الوقت، الدقائق القليلة التي تستفيقين فيها لتجدينني أمامك وتبتسمي ابتسامتك الساحرة، بعيون غاية في الروعة لم تكن بذاك البريق المذهل حتى في عز صحتك، قبل أن تعودي مجددا للدخول في الغيبوبة، إلى أن سقطت أنا مغشيا علي من شدة التعب.
أنا لا أذكر ذلك تفضلا مني يا حبيبتي أبدا، فهناك تفاصيل كثيرة تجاوزتها، الله وحده يعلم بها، لكني أحببت لو أنك كنت وقتها تسمعين ما كنت أقوله لك في تلك الليالي الحالكات، أو أن تشاهدي كم الدموع التي سفحت فوق سريرك وأنت في عالم آخر، تمنيت لو أن شخصا مر من هناك وسجل تلك الأحاديث والأحزان في غفلة مني، ثم أرسلها لك بأي طريقة من الطرق لكي ترينها وتسمعين، وكيف أني كنت أترجاك أن تسامحيني على تقصيري معك، وعلى أخطائي الكثيرة في حقك في الماضي، وأن تمنحيني فرصة أخرى لكي أحبك أفضل، فربما كل هذا الحب الذي أشعر به الآن لم يكن بمستوى حبك، ولا كنت طاهرا معك بمستوى طهرك معي.
تمنيت أن تسمعي أنيني فتواسيني، وأن تشعري ببرد باتنة في أوصالي فتقومي كعادتك وتدفيني، وأن تتلمسي دموعي فتمسحيها بشيء من حنين، وفي الأيام القلية التي عاد لك فيها الوعي وقد أعدناك إلى بيت عائلتك بباتنة طامعين في أن تحل معجزة ما، كان شبح الموت باديا في محياك كثيرا، ومع ذلك أصررت قبل عودتي للعاصمة لالتزاماتي المهنية والعائلية بها، أن تطرزي فستان الفرح لديك، وأن تتجملي وتطلبين من ابنتنا أن تصبغ شعرك الحزين بلونك المفضل “الخروبي”، كما لو أنها رقصة الموت الأخيرة، ولست أدري ما الذي دعاني لتسجيل ذلك في شريط للذكرى، وكأني كنت أعلم أنه سيكون آخر عهدي بك، كانت آخر لحظاته قبلتك الحنينة على يد ابننا زكريا، وكأنها قبلة الوداع الأخير.
كنت يا مهرتي الجامحة، وأنا أتأهب للسفر إلى العاصمة مضطرا، ألتفت خلفي كأني لن ألقاك بعد يومنا ذاك، شعرت أن قلبي يكاد ينفطر وأنا أقوم بذاك الوداع الوجيع، أخرج وأعود، ثم أخرج وأعود، ونظراتك الأخيرة تلاحقني كأنها تقول لا ترحل حبيبي، أو لا ترحل كثيرا، أو ابق هنا وعد سريعا، كأنها وهي الراحلة تماما، تريدني أن لا أرحل ولو قليلا، حتى إذا استجمعت قوتي وانطلقت، كان صوتا بداخلي يصرخ ليتك بقيت، ليتك بقيت..
ظللت أمني نفسي بعد أن تركتك مع ابننا يوسف، بأني سأراك عبر الماسنجر، وأني سأطمئن عليك، وأني قريبا عائد إليك، وتعودي إلى بيتك الذي تحبينه، وإلى غرفتك الجديدة التي عملت على تزيينها وإعادة صباغتها، لكي تليق بحضورك، وبعد كل مكالمة خلال تلك الأيام القلية من غيابي، شعرت أن الفاجعة الكبرى اقتربت، فحدث أن تبلدت السماء واسودت الدنيا في نظري بعد مكالمتنا الأخيرة، وقد أعادوك في الأثناء للمستشفى، فقد بدأت بعد أن وصل الورم منتهاه في الرأس، تصرخين باسمي حساااان وباسم ابننا زكريا، كما لو أننا جئناك، وأردت أن تنزلي لاستقبالنا على بوابة المستشفى، لينقطع الخط بيننا فجأة، وتحدث الكارثة.
حاولت أن أصرخ، ولم أستطع، حاولت أن أبكي، لكني بقيت متجمدا، اتصلت بابني يوسف فلم يرد أن يخبرني بالحقيقة، بأنك قد دخلت غيبوبة الموت الأخيرة، وأن صراخك المدوي باسمي واسم زكريا ملأ المستشفى حتى فاض وغطى جبال الأوراس كلها، رغبة ولوعة منك في رؤيتنا، وأن العاملين والعاملات بالمستشفى فشلوا في إيقافك والسيطرة عليك، قبل أن تدخلي في غيبوبة الموت الأخير.
ولست أدري يا وطني الموشى بالجراح والآلام، كيف قررت السفر إليك دون انتظار أن يخبروني بالحقيقة، كنت وأنا أطوي الطريق إليك طيا، أمني نفسي بأنك نائمة فقط، أو أنها نوبة كما باقي النوبات السابقة، وحين وصلت ورأيت من بعيد دموع ابننا يوسف، وحضور كل أفراد العائلة، أدركت أن الخطب كبير، وأن ما كنت أهرب منه دائما قد وقع، فسقطت تحت رجليك وأنت نائمة على سرير يهتز كأنه الرعد من شدة ما أنت فيه من وجع، كأني ريشة في مهب رياح عاتية، بكيتك أمام الجميع ولم أبالي، وناديت أن يا حبيبتي لا ترحلي، ها قد عدت أنا فلا ترحلي، أو ارحلي قليلا قليلا فقط، لكن لا ترحلي تماما، لا تتركيني تماما، لا تنطفئي يا شمعتي تماما، اتركي بعض نور عينيك، حتى أبصر طريقي الموحش بعدك.
وعبثا كنت أترجاك وأترجى القدر، عبثا يا عمري توسلت، عبثا ذكرتك بالذي بيننا من عهود، وما بيننا من حنين ويوسف، وما بيننا من حسام وزكريا والجدود، وحين أخبرني الأطباء أن وضعك في غرفة الإنعاش بلا طائل، وأن الموت لا محالة نازل، سلمت أمرك وأمري إلى الله، وصليت كثيرا لأجل كل لحظة جميلة جمعت بيننا، صليت كثيرا لأجل كل حلم حلمناه معا، وكل ألم اقتسمناه، صليت لأجل السنونوات التي أهدتني في أول لقاء، ولمسة الأصبع الصغير في شارع الضباب، لأجل القصائد التي كتبناها معا، ونحن شاعرين بالقوافي والحنين.
وبعد مرور أكثر من أسبوع وأنت يا صغيرتي في موتك السريري الحزين، خيرني الأطباء بين أن يبقوك موصولة بالأنابيب أطول مدة في تلك الحال التي لا شفاء بعدها، وقد تدمرت وظائف الدماغ كلية حتى اذا حدثت معجزة فلن يكون بمقدورك التكلم أو الرؤيا او الحركة، أو يتركوك إلى قضاء الله ورحمته، فاخترت أن يتركوك بين يدي الرحمن الرحيم، الذي هو أرحم بك مني ومن أهليك والناس أجمعين، وأن يتولاك ويتولانا برحمته، ويلهمنا فيك يا “نسومتي” الوادعة جميل الصبر والسلوان.
لكني اعترف يا عمري، أن ما كنت أتوقعه ليس كالذي حدث، وأن خبر وفاتك الذي جاءني، لم يكن مثل الخبر الذي كان في الحسبان، ففي تلك الليلة الحزينة بين 25 و26 نوفمبر 2021، غفوت قليلا وإذ بي أحلم بخبر وفاتك، لأستيقظ فزعا، وبينما أنا أتوضأ لصلاة الفجر أخبرني ابني أن إدارة المستشفى اتصلوا، وأنا لله وأنا إليه راجعون، لأشعر كما لو أن نهاية العالم قد بدأت، وأن السماء قد نزلت، وأن الأرض من تحتي قد زلزلت، وأن العيون قد فجرت، وأن البحار سجرت، ولولا ركعتي الفجر حينها كانت ملاذي، وسجودي الطويل بين يدي الله، كان سلوتي وعزائي، لطاش العقل من هول ما جرى، أو لفاضت الروح من غربتي واغترابي.
كل هذا الوجع يا حبيبتي كان “كوم”، وما سيأتي كما يقولون “كوم آخر”، ففي فجر ذاك اليوم الوجيع وأنا أنتظر قرب غرفة الموتى داخل المستشفى، لأحملك لاستكمال إجراءات التغسيل والدفن، عشت أصعب يوم في حياتي على الإطلاق، فقد رأيتك بعد أن أزحت الغطاء عن وجهك الملائكي البارد، كما لم أرك من قبل أبدا، رأيتك أنت يا حبيبتي المجنونة المخبولة، العاشقة المعشوقة، السيدة الأنيقة المتألقة، هامدة بلا حركة، حتى أني وأنا أحملك تعثرت، فقد ارتعبت رجلاي من برودة جسدك الطري، و دمائي خلتها تجمدت في العروق، كما تجمدت الدموع في العيون.
لا شيء أوجع يا مهرتي من هكذا وجع، لا شيء أقسى من أن يحمل الحبيب حبيبه إلى مثواه الأخير، مضرجا بالنحيب والانكسار الكبير، لكأني كنت أحمل بين يدي تاريخا من 27 عاما من الذكرى، وعقودا بل قرونا من النجوى، وعمرا سحيقا يمتد بداية التكوين إلى الأبدية.
كان حملها ثقيلا يا صغيرتي، ثقيلا جدا، وأنت التي كنت في عمر الزهور بوزن الريشة والفراش الأبيض، ثقيلا على قلبي الذي أحبك بطريقة البهاليل، فقد كنت سيد الرحيق وكلام الحب الكبير الذي أوزعه في العالمين، بينما كنت معك طفلا صغيرا، لا يحسن التعبير والكلام الكثير.
تمنيت وهم يهمون يا عزيزتي بوضعك في مثواك الأخير، أن أصرخ في وجههم بأن لا يفعلوا، تمنيت لو ملكت الجرأة أن أمنعهم بأن لا يكيلوا التراب على وجنتيك اللتان كانتا وردتين في بستان أفراحي، ولا على عينيك اللتان كانتا فانوسي حياتي، ولا على شفتيك الموغلتين في الرحيق، ولا على ذرة من جسمك الطاهر الأرجواني، تمنيت أن أصرخ في وجوههم، توقفوا بحق السماء لا تقطعوا شجرة أحلامي، لا تفصلوا بيني وبين آهاتي وأشجاني، لكنهم فعلوا يا حبيبتي، فهل تغفرين لي جبني وخذلاني؟ هل تغفرين تركي لك وحيدة ها هناك، على سفح جبل خال؟ هل تغفرين لي لياليك الطويلة باردة من دون غطائي؟.
حين غادرت المكان في أعلى سفح الجبل الأزرق بمقبرة “إسلامن” بالأوراس، كنت أعلم يا عمري أني تركت خلفي قلبي العاشق معك، لكن قلبي المعشوق الذي ينبض بين جوانحي، كان مشغولا بابننا الصغير زكريا الذي تركته خلفي بالعاصمة، ولم أقدر على إخباره بوفاتك، أذكر أني عشت في محاولة تبرير غيابك الطويل عنه، على غير العادة دون اتصال هاتفي على الأقل، بعد عودتي لبيتنا، ما كان أصعب بكثير من معاناة المرض والوفاة والدفن والعزاء، لقد جبنت وأنا الشجاع في حياتي العملية، على أن أواجه طفلا صغيرا لم يكمل عامه العاشر بخبر مرير كهذا، جبنت حد الانكسار يا أمنا الرؤوم أنا وهو، أن أخبر “زكزوكة” كما كنت تدلعينه، أننا بتنا معا يتيمين، وأن الحضن الذي كان ينتظره بفارغ الصبر لكي يعود، قد بات الآن تحت التراب، وأن “ماما” لم تعد هنا، وأنها لن تجيئ بعد الآن أبدا.
احتاج الأمر مني يا أمنا وأختنا ورفيقة دربنا، أياما لكي أستجمع قوتي قبل أن أخبره، ولن أتجرأ هنا للحديث عن ردة فعله، ولا كيف انهار من عليائه ورجائه، فتلك لحظة وحدها تعادل ألف ألف طعنة خنجر في الصدر، وألف ألف صعقة كهرباء، وطوفانا كاملا من الوجع الأبدي الذي سيبقى مدفونا في داخلي للأبد.
أعتذر لأني أطلت عليك بالشكوى والأنين يا صغيرتي، وأنت مشغولة في عليائك بالملكوت والنجوى، لكني أعترف لك للمرة المليون، وأنا أمام قبرك المضرج بالنحيب، أنني بعدك لست بخير أبدا، فالسماء التي كانت في حضورك لم تعد هي السماء، والأجواء التي كانت تعبق بأنفاسك لم تعد هي الأجواء، والناس والحجارة والأرجاء، كلهم تغيروا كثيرا، والطعم الحلو للحياة بعدك أخذ مرارة الدفلى، بل إن أبناءنا بعد أن كبروا، تغيرت ملامحهم واهتماماتهم وعواطفهم، وتغيرت ملامح الحب وملامح الإخلاص وملامح الوفاء، فهل تسمحين لي الآن، بعد سبعة أعوام من المرض، وثلاث سنوات من الشقاء، أن أقطف زهرة أخرى تعينني على ما تبقى من نقاء؟ هل اكتفيت الآن من حبي، وهل أعطيت ما يكفي من دلائل الوفاء؟.
لست بخير بعدك يا حبيبتي أبدا، ولولا هديتك الباذخة لي قبل الرحيل، ابننا الملاك الصغير زكريا، لكنت الآن مشردا في عراء الأشقياء، لكنه ها هنا وطنا بديلا عنك يا حبيبتي، ينام معي في المكان نفسه الذي كنت تنامين، أشم رائحتك الشهية فيه، وأحتضنك في عيونه، فيهديني مع صلواتي وخلواتي بالله، ما يكفيني في غيابك من الطمأنينة والسلام.