في حوار جمع الفيلسوف الصيني “كنفوشيوس” وتلميذه “تسي كوغ”، سأل التلميذ أستاذه عن مفهوم السلطة وعوامل استمرارها، فاختزلها الأستاذ الفيلسوف، في ثلاثية تأمين لقمة العيش والقوة العسكرية وثقة الناس في حكامهم، ليفاجئ التلميذ أستاذه، بسؤال مشتق من ثلاثية كنفوشيوس، مختزله: وماذا، إذا اضطررنا للاستغناء عن واحد من تلك الثلاثية؟ لتكون إجابة الفيلسوف، التنازل عن القوة العسكرية لصالح العنصرين السابقين، ليتكرّر استفسار التلميذ، وماذا لم يكن هنالك بد من الاستغناء عن اثنين من ثلاثية شروط السلطة، فبأيهما نضحي؟ لتكون إجابة الفيلسوف الصيني الصادمة لعقل تلميذه “تسي كوغ”: حينها لا مفر من الاستغناء عن عنصر لقمة العيش كحاجة بيولوجية، نتقاطع فيها مع الحيوانات، أمام الحفاظ على أهم عنصر مؤسّس للدولة وللأمة، ألا وهو “ثقة” الناس..
والنتيجة، ووفق التفسير والمنظور التقليدي لتأسيس الدول، فإنّ مفهوم السيادة، الذي كثيرا ما اقترن، بالأكل مما نزرع وبلبس ما ننسج، يبقى مفهوما ناقصا، بل ساذجا، إذا ما ربطناه بالحضارة الإنسانية الحقيقية التي تعني الاستثمار في “إنسان” الدولة، الذي يعني، ثقة الشعوب في حكامها وأنظمتها، والتي تعني بالضرورة، أنه يكفي، أن تكسب ثقة شعبك، حتى تتحكم في الباقي من شروط الدولة، فالأساس الذي يحمي الأوطان كقوة عسكرية، وكذا يوفّر لها لقمة العيش، هو “إنسان” الدولة، ويكفي أن تنال “ثقته”، حتى تتوفّر كل العوامل الأخرى من غذاء وذود عن الأوطان..
بعبارة أخرى، تؤكّد ما سبق كما تفسّر ما حدث من انهيار لكل معنى للسيادة في الأوطان العربية، فإنّ المفهوم الحقيقي للخراب والهوان والخضوع الذين مسوا البنية الأساسية لتكوين الأوطان العربية، ليس فقط ما عجنته المخابر الغربية من مخططات استحواذ على ثروات الشعوب وتسييرها من بطونها وفق منطق “الرعي” العام، ولكنه نظرية سيطرة مستحدثة في إستراتيجية تجاوزت المنظور التقليدي للتحكّم في الدول من خلال نهب ثرواتها، إلى منظور التحكم، بل قتل شعوب تلك الدول من الداخل، وذلك من خلال نهب مواردها البشرية أولا كإستراتيجية قديمة، ثم قتل “الذات” المجتمعية بإفراغ كل علاقة “ثقة” بين الشعوب ودولها، وهو الأمر الأساسي في لعبة السيطرة وإستراتيجية نزع كل سيادة للشعوب على أوطانها، بل على حياتها ذاتها، وطبعا، ما كان لذلك المخطط من أجندة التدمير الذاتي، أن يتحقق، لولا إستراتيجية تنصيب أنظمة عملية ومستلبة وتابعة على رأس كل عرش ونظام عربيين، حيث مهمة الحكام المعجونين في المخابر الغربية، مختزلة في ترسيخ قناعة لدى شعوبها ورعاياها، أنّ علاقتها بأوطانها، علاقة “مستأجر” لأرض وليس مالكا لها، وهو الأمر الذي ألغى أهم عامل وعنصر في إنشاء الدول واستمراها، والمتعلق أساسا بعامل الثقة بين الحاكم والمحكوم، بل بين الأرض ومالكها، والأصح من ذلك، ألغى كل مفهوم للانتماء والتجذر والارتباط الروحي، قبل الجسدي، بالمكان..
والمهم وبعيدا عن مفهوم الفيلسوف الصيني “كنفوشيوس” للسلطة، وربطها بالثقة الشعبية التي تعني الانتماء للأرض كيانا ومكوّنا من خلال الثقة في الحاكم، نعود إلى حالنا اليوم، حال الأمة العربية من خليجها “المغتصب” إلى محيطها المنتهك والمقرصن، لنسأل، هل توجد دولة واحدة من مصر إلى السعودية وصولا إلى الإمارات والأردن ناهيك عن المغرب، يمكنها أن تدّعي أنّ لها بعضا من السيادة على قرارها وأراضيها وحتى مراقص حكامها، حتى لا نكفر ونقول عروشها، فذلك ضرب من جنون الوهم؟
جنون الوهم، الذي كثيرا ما تمّ تسويقه عن إرادات الشعوب وعنتريات الحكام، اللتين، كانا قبل تداعيات ونتائج ما حدث من مذابح في غزة، وجبات يتسوّق بها في المحافل الرسمية والدولية، ذلك الجنون ووهمه أسقطته غزة، جثثا ومجاعة، لتزيل من على ظهر الأنظمة، كل ما سبق من “أوهام” سيادة، تجلت في مقولة نتنياهو التي وجّهها للحكام العرب في اجتماعهم بالرياض، عشية المحرقة والمذبحة الصهيونية، من خلال العبارة المشهورة لنتنياهو يوم وجّه كلامه لحكام وملوك وأمراء الخم العربي الذين فكّروا في “الوقوقة” من مرعى الرياض، بقوله: “المطلوب من الحكام العرب، أن يصمتوا”، والمؤكد أنّ تلك العبارة لم تكن سوى حكما لا استئناف ولا نقض فيه، والدليل، أنّ “الموقوقين”، وليس الموقرين، يومها، أكلت القطة لسانهم، لينفضوا اجتماعهم ويتفرقوا باحثين عن أعذار ومبررات وتفسير لنيتهم في “الوقوقة” خارج ما هو مسموح به من طرف صاحب الأمر والنهي..
السيادة يومها، ولا نستثني أي سيادة أو سيد منهم، ضربت في الصفر، وغزة سيحفظ لها التاريخ، أنها جَبّت كل ما قبلها وما بعدها من كلام عن سيادة حاكم أو قرار أمة عربيين، فقط، كلهم أتباع، بل خدم، لم ينالوا حتى شرف أن يكونوا ندماء في مائدة نتنياهو، وهو ما أكدته مذبحة الستة أشهر الصهيونية في حق العزل والتي خرجت من مطالب “أعرابية” محتشمة بوقف إطلاق النار، لترسو على مراودة سياسية مخجلة لـ”إسرائيل” من طرف أنظمة العار، لكي يحفظ نتنياهو لحكام مصر والسعودية والأردن، بعضا من ماء الوجه أمام شعوبها وذلك بالسماح لتلك الأنظمة “أصمتوا” بتمرير أكياس الحليب وحافظات الأطفال، ناهيك عن حمولات من الأكفان، لغزة السيادة والصمود..
والسؤال المحوري فيما انتهى إليه “خنوعهم” من فقدان لأي أهلية أو مفهوم للسيادة حتى في توزيع وجبات “جوية” لصالح ضحايا المذبحة الإنسانية، ترى، كيف استطاعت “إسرائيل” ومن ورائها أمريكا، السيطرة التامة على أي موقف عربي، يمكن أن يشتم منه رائحة الرجولة؟
والجواب البسيط لذلك السؤال الكبير عن “خنوع” وانبطاح بعمر أمة من حكام الذل والهوان، أنّ فقدان الأنظمة العربية لعنصر “الثقة” بينها وبين شعوبها، والذي يعتبر العنصر الأساسي في تأسيس الدول والمواقف، هو من رمى بها بين أحضان الخيانة والعمالة والخذلان، فنتنياهو، يوم أمر حكام الخم العربي من خليج الخضوع إلى محيط الاستكانة، كان يهدّد العروش الأعرابية بشعوبها، ويقينه بأنه لولا حمايته لها، لانتهت تلك الأنظمة بأسنان شعوبها، هو ما شجّعه لأن يذكّر من يظنون أنهم “سادة”، بأنهم بلا “سيادة” إلا ما وهبته “إسرائيل” من مساحة وساحة تحرّك وبطولة مصطنعة..
مجمل القول وخاتمته، السيادة كقرار وكموقف وكحدود في العالم العربي، انتهت مع ثقة حاكم عربي، وقف ذات تاريخ في وجه هنري كسينجر، ليقول لثعلب أمريكا وعقل الصهيونية، على عتبة المطار، فاصلا في مفهوم السيادة: “عشنا، وعاش أجدادنا على التمر واللبن، وليست لدينا مشكلة في العودة إليهما”. وهي المقولة التي اختصرت كل معنى لسيادة الأوطان التي تجسّدها المواقف وتكون دعامتها ورأس مالها ووجودها، ثقة بين حاكم ومحكوم، ثقة تختزل علاقة الدول بإنسانها كاستثمار وكمركز قرار، ثقة، قال عنها الفيلسوف الصيني “كنفوشيوس” لتلميذه “تسي كوغ”، إنها عنوان التأسيس وقلبه النابض، ليأتي بعده حكاما وملوكا وأمراء، برهنوا صحة النظرية، حين تحوّلوا إلى دمى على طاولة الكبار، أينما حرّكوهم ساروا، وآخر مسارهم عروش بلا قيمة ودول بلا سيادة.