في الواجهةأقلام رصاص

الدكتور السعيد بوطاجين يكتب: رسالة إلى ميت لم يدفن بعد!

أدب بالخلاخل والحنّاء!

أدب بالخلاخل والحنّاء

من عقود وأنا أفكر في الكتابة عنك سوء، عن ضلالك وفتوحاتك المجعدة، وعن مستقبلك الأملس، إن كان لك مستقبل في ظل هروب القارئ من الكتابة التي لم تعد ذات قيمة. كما لو أنها فقدت نجومها وجبّتها الصوفية، كما لو أنها تخلت عن مداركها القصية، عن المجتمعات التي أنهكتها القلة والذلة. لقد اصطف الحرف إلى جانب المؤسسات الموجهة للبصيرة، مؤسسات الرذيلة التي تمنحك المال والجوائز وشكرا جزيلا، وبعض ما تيسر من الشهرة لتنمو في حضنها كالجائحة، ثمّ تدّعي أنك آية.
حضرة الأدب المنسحب من شأن الأمّة، المعجب بالبردعة التي على مقاس الرواية والقصيدة: أنا لا أرغب في الكشف عن بؤسك تفاديا لتمريغك أمام البنفسج والدابة، حتى لا يشمئز منك من ضلّلتهم بالتصفيق على الأمراء كولد مدجج بالحلي والحنّاء. أعرف أنك كنت نبيلا في جهة ما، رسولا من كرز البرية، كما الناسك في خلوته النائية، وفي حروفك القطنية بعض نوّار الفضيلة التي سلاما عليها.
كان يجب أن تكون أنظف مما أنت عليه، واقفا مثل الصفصافة، كالآلهة القدامى، ودائما في المقدمة، أو في باب السجن تنتظر الخاتمة، ذاك قدرك، وتلك مهمتك في هذه الدنيا التي ليست لنا نحن الذاهبين إلى الموت يوميا، بلا ناطق رسمي باسم آلام العبيد الجدد في المجتمعات الخادشة للحياء، لكنك تقاعست كثيرا ولم تحارب الليل والدجال علنًا. اتسخ جوهرك وغدوت إمّعة وبهلولا.
كما لو أنك لا تبصر جيدا أيها الجالس على قمة الأولمب متفرجا على السلالة التائهة، على يتامى الفجيعة، لا تشعر بالأوبئة في عالم نأى عن الحكمة وغدا أمعاء، شيئا يشبه الوحش في حضارة المعدة، وهذه لعنة تشبه جوائزك. صدقا: أجدك اليوم تتباهى بالقفازات البيضاء التي توشح أصابعك الطرية، بأحمر الشفاه والأظافر الطويلة، بالكعوب العالية، وبخطى مراهقة تخاف أن تدميها نسمة، كأنك لا ترغب في رؤية اللصوص والقتلة، القادة المعتوهين، الحروب التي لا تقضي سوى على الملائكة باسم الدين والتنوير والتدوير والديموقراطية المستبدة.
حضرة الأدب اللين، الطيب جدا، الذي ينقّ كشاعر معجب بالوزن والقافية، الأدب الخجول الذي لم يتخلص من الحفاظات وحليب الأنظمة، الأدب الذي يتجشأ بأبهة، يأكل من صحن الخليفة مطمئنا، سعيدا بفتوحاته التي من رثاث الكلمة. هل هذه خصال تفتخر بها؟ هؤلاء الناس إخوتك في أرض الربّ، وهم يريدون كتابة لا ترتدي ربطة عنق فصيحة اللهجة، هذه المقامات تتطلب نصوصا لا أزرار لها، شعثاء، متربة الحروف كعيون التعساء المنهكة من القلّة، هنا وهناك حيث يبكي الرجال دون أن تراهم لأنك لا ترى إذ تنظر بعينين مليئتين بوعود السلطنة أيها الدودة. الحق أقول لك: لم تعد حارسا يكتب بالفحم، وليس بأصابع معقمة.
أيها الأدب البدين من شدة التخمة، البرميل، المتكرّش مثل مديري الشركات الكبرى التي تقود العالم إلى الدم والمحنة، المتدلي الخدين والرؤية: تنازلت عن كرامتك وغرقت في الحمأ. أقسم أني شاهدتك مرارا ترتدي الجلباب مدّعيا التنوير والحداثة، وبالبرقع تستجدي الحاكم وتكتب قصائد منحنية، كما لو أنك غدوت ضد هيبتك القديمة. لم تعد تتوضأ بقوس قزح قبل الذهاب إلى الورقة. أصبحت خاملا، قليل الضوء والنظافة، أسوأ منهم قليلا، عليك اللعنة.
الكتابة المباركة لا خلاخل لها ولا فساتين زاهية. تستيقظ كلّ يوم مع جدتنا النحلة لتخط شيئا ينفع الأرض السبية، كما فعلت أشعار نيرودا التي ظلت واقفة كصفصاف الخالق في الدنيا. كانت مجتهدة، ومتخصصة في إزعاج الوحشو الطاغية. أمّا أنت أيها الأدب المختبئ خلف زجاج البلاغة، فكلّ يوم ببذلة جديدة، كلّ عشية في وليمة، وكلّ لحظة في باب السلطان والمؤسسات تنتظر هدية. تذكر هذا جيدا عندما يسألك الأحفاد عن هواياتك المفضلة مذ غدوت تتهافت على سقط المتاع. قل لهم الحقيقة ولا تكذب على البنفسج والفراشة أيها الذيل المنضبط، وظلّ الذين يملون عليك ما تيسر من الردّة.
حضرة الأدب الذي بشحم وفير، بألفاظ وصوّر طيبة فوق العادة، ومدمنة على النظر في المرايا: لن تتماثل للشفاء ما دمت تزداد انحناء لرؤوس الأموال والخديعة، ما دمت ساكتا عن اللص والذئب وأبي لهب. لن تبرأ من العدوى مذ قبلت التنازل عن ألقك الذي نسجته الآداب العظيمة، عن سحرك الرباني ومعولك، وعن أنوارك التي كانت تضيء ظلام النفس المتعبة من بؤس القادة. لذلك سيهجرك الوقت ولن يقيم لك تمثالا ليفتخر بك كالعادة. لن يتخذك ملجأ لأنك أصبحت عاريا من الحق، تكذب كثيرا، وتسكت قرنين لتنتج تصفيقا، كما لو أنك مرعوب من الجملة التي توقظ الأمة. لقد هرمت وخرفت وبلغت من الانحدار عتيّا.تبّت يداك وأقلامك الهشة.
أيها الأدب العفيف الخفيف السخيف: يلزمك مظفر النواب لتستوي قليلا، لتستحي من نفسك، لتقول ما يجب أن يقال دون أن تخشى شيئا. يلزمك محمد الماغوط ليمرغك، محمود درويش، نجيب سرور، أحمد فؤاد نجم. يلزمك سوط يقضّ مضجعك الدافئ أيها النعش الذي يدّعي الجمال والفضيلة. أيها الأدب الذي يولد في القطن المحبوك بروية، مطأطئ الموقف. يلزمك عصا ومروءة، وبانتظار أن تصبح رجلا في خدمة أمّنا الأرض الجليلة، شامخا ونافعا، سأصلي عليك صلاة الغائب وأقرأ الفاتحة بالعلامات المتاحة، على أمل أن تُبعث مستقلا عن المؤسسات والقادة الذين أطفأوا عينيك لتصبح شحاذا في أسواق الكذب والرذيلة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى