أقلام رصاص

الهويّة الهوّة

الحقيقة ليست ملكا لأيّ أحد، الحقيقة هي ملك الجميع، الحقيقة ليست رأيا واحدا.. الحقيقة هي كلّ الآراء، الحقيقة ليست أنا وحدي، الحقيقة هي أنا وأنت معا.

يجلسُ أربعة أشخاص إلى طاولة واحدة، ويضعون مجسّما في منتصف الطاولة، يُطلبُ من الأربعة أن يصف كلٌّ منهم هذا المجسم، كلّ واحدٍ سيقدم وصفا لهذا المجسّم انطلاقا من زاوية نظره (وجهة نظره)، الأكيد أنّه ولا شخص سيصف المجسم كما يصفه الآخر، في النهاية سنجدُ أنفسنا أمام أربعة أوصاف، كلّ وصف يدّعي صاحبُه أنّه هو الوصف السليم والنهائي للمجسم، وأنّ وصفه غير قابل للنقاش، سيتجادل الأشخاص الأربعة كثيرا ويحاول كلّ شخص أن يقنع الآخر أنّ وصفه نهائيّ، سيدافع كل شخص عن وجهة نظره بكل قوّة محاولا إقناع الآخرين برأيه، قد يتعدّى الأمرُ الاختلافَ إلى الخلافِ، والكلام إلى اللكم، والحوار إلى القتل.

لنفترض أنّ شخصا انتصر في النهاية، وقتل الأشخاص الثلاثة الآخرين، ماذا لو غيّر هذا الشخص موقعه إلى مكان الشخص الثاني؟ الأكيد أنّه سيجدُ أنّ الشخص الثاني ــ الذي اختلف معه في وصف المجسم وقتله ــ   كان على حقّ، وأنّ هذا الشخص الثاني ( المرحوم)  وصف المجسم وصفا دقيقا انطلاقا من زاوية نظره، وإذا انتقل الى مكان الشخص الثالث ( المرحوم أيضا)  سيجد أنّه كان على حقٍّ أيضا.. وكذلك الأمر بالنسبة للشخص المرحوم الرابع ، سيدرك الشخص الوحيد الذي بقي حيّا أنّه لم يكن الوحيد الذي وصف المجسم بدقة، وأنّ الثلاثة الآخرين كانوا يقتسمون معه الوصف الدقيق للمجسم، وبما أنّ قتلهم لم يكن مبررا أبدا، وبما أنّه الوحيد الذي بقي حيا، فإنه بالتأكيد سيبحث عن مبررات يقنع بها جيرانه وأصدقائه وأبناءه وأحفاده أنّه كان على صواب، وأنهم كانوا على خطأ، فوحده من سيكتب التاريخ ووحده من سيقدم الوصف النهائيّ للمجسّم.

لكن في النهاية فإنّ الأربعة كانوا محقّين، فقد وصف كلّ منهم الحقيقة انطلاقا من موقعه، لكنّهم جميعا كانوا مخطئين في ادّعائهم امتلاك الوصف النهائي لحقيقة المجسّم، فحقيقة المجسّم هيَ وجهات نظرهم الأربعة، فلو أنّ عاقلا من بين الأربعة انتبه للأمر وطلب منهم أن يغيّروا مواقعهم لأدرك الجميع أنّهم كانوا على خطأ بقدر ما كانوا على صواب، ولو أنّ كلّ واحد منهم وصف المجسّم انطلاقا من الزوايا الأربعة، لانتهوا جميعا إلى وصفٍ واحد.

الأمر نفسه ينطبق على الأفكار والتصوّرات.. التاريخ والإنسان.. الدين واللغة، الفلسفة والفكر…

 تتوقف الحقيقة وتتحوّلُ إلى وهمٍ حينَ ندّعي امتلاكها، تنتهي الحقيقة حين يبدأ كلّ واحد منا في احتكارها وإلغاء الآخر، تتحوّل الحقيقة من جوهر متماسك صلبٍ إلى قطع مفتّتة حينَ لا نسمحُ بمساحة مشتركة بيننا جميعا، إنّ غياب هذه المساحة المشتركة بيننا هو السببُ في أنْ تتحوّل الهويّة إلى هوّة، وعلى ذكر الهويّة فإنّ هناك مشكلة أخرى، أكثر تعقيدا.

لنفترض أنّ المجسّم/الحقيقة موضوع على طاولة مختلفة عن الأولى، فهي طاولة مستطيلة يتقابل عليها أربعة أشخاص، ثلاثة أشخاص في جهة وشخص واحدٌ وحيد في الجهة المقابلة، سنصلُ إلى وصفين اثنين لا ثالث لهما، فثلاثة أشخاص سيصفون المجسم/الحقيقة وصفا متقاربا جدا، وشخص واحد سيصف المجسم/الحقيقة بشكل مختلف.

سيكون هذا الواحدُ أقليّة، وسوف لن يتمكن من إقناع الثلاثة برأيه، سيكون متوترا قلقا جدّا، فهو بالفعل يصف المجسم/الحقيقة كما يراه، وسيكون الثلاثة ( الأغلبية) أكثر هدوءا واتزانا، فقد قدّموا وصفا متقاربا موحدا للمجسم/الحقيقة، سيظلّ الواحدُ يحاول أن يقنع الثلاثة بأنّه على حقّ، وسيتعامل الثلاثة على أنّ هذا الواحد مخطئ، أو ربما سيصفونه بالجنون، فكيف يعقل أن يقدّم شخص واحد تصورا للمجسم يختلف عن تصور الأغلبية؟ مع مرور الزمن سيتشكل لدى هذا الواحد شعور بأنّه مضطهد وأنّ الثلاثة تآمروا عليه، فهو لن يتقبل أن يكون شكل المجسم/الحقيقة الذي يصفه كما يراه مختلفا عن وصفهم بهذا الشكل؟ إنّ هذا المجسم أزرق في جهته وأبيض في جهتهم، خشنٌ في جهته أملس في جهتهم، زجاجيّ في جهته طيني في جهتهم.. سيظلّ هذا الواحد غاضبا، قد يثورُ ويغضب وينتفض، يحملُ الجسمَ/الحقيقةَ من على الطاولة ويرميه على الأرض، قبل أن يكتشف أنّ الثلاثة كانوا على حقّ، وأنّه لو قام من مكانه ونظر الى المجسم/الحقيقة انطلاقا من مكانهم لما حطّمَ المجسم/الحقيقة،  هو أيضا كان على حقّ، لكنّه كان مخطئا في كل تلك الأحاسيس والمشاعر التي تولّدت من الاختلاف والتمايز، لقد تكسّر  المجسّم / الحقيقة في النهاية، فهل هناك إمكانية لترميمه وإصلاحه بالشكل الذي كان عليه؟!

قبل أن تقوم أيها الواحد بتحطيم الحقيقة التي تتشاركها مع الأغلبية، غيّر  مكانك وانظر إليها من حيث يجلس الآخرون، لتدرك أنك تشترك مع الأغلبية في وصف الحقيقة، ستكون في غنى عن كلّ هذه المشاعر الغاضبة الصاخبة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى