تلك الصورة المكررة التي رسختها أفلام الويسترن سباغيتي عن « البطل » المسلح بمسدسين، والذي يدخل على قرية آمنة فيثير الفزع. يطلق النار في كل الاتجاهات، ويسلب الناس أموالهم، وينهب الخزينة، ويقتل كل من يقف في طريقه، وينتهي به المطاف إلى موتيل القرية بين ذراعي إحدى بنات الليل كإنجاز عظيم لبطولاته !..
تلك الصورة يعيد تمثيلها ترومب بأناقة وشراسة لا تقلّ موهبة عن موهبة كلينت استوود في فيلم من أجل حفنة من الدولارات (1965)، وإن كان بذكاء أقل وتبجح أكبر !..
لم تنل الحداثة، ولا تغير العصور، ولا حتى الذكاء الاصطناعي، من تكرار الصورة : احتقار الأقل منه تسلحا، ونهب أموال الناس، والاستيلاء على أراض ليست له !… الفرق الوحيد هو في استعمال الحشود، فالكوبوي يلعب وحيدا أما ترومب فيلعب مع الحشود…
حشود ترامب من ذوي الياقات الزرقاء، كما يسمونهم، أغلبهم من ذوي المستوى الدراسي المحدود، عمال وفلاحون وموظفون بسطاء وهامشيون طحنت أمريكا أحلامهم، وكل من يسهل تجنيدهم في الشعارات البراقة والكلمات الفخمة من نوع « استعادة العصر الذهبي لأمريكا » أو « لنجعل أمريكا أمة عظيمة مرة أخرى »… أو إغراءهم بضم بلدان أخرى لخارطة الولايات المتحدة لمزيد من مساحات الرعي، أو حتى تهديد أنظمة جبانة يعرف أنها تفتقد للشرعية، لملء جيوبه الفارغة…
ومثل كل كوبوي أزعر إختار ترومب اللعب بمسدسين، المسدس الأول خصصه لإطلاق النار على خصومه الذين يسميهم « الدولة العميقة » المتمثلة في المخابرات والادارة والقضاء والمالية، وأيضا رجال الظل في البيت الأبيض وفي البنتاغن ! وقد أوكل ذلك لأخطر رجل في مجال المال والتكنولوجيا إيلون ماسك الذي شرع للتو في تفكيك مؤسسات المساعدات الدولية، والبيئة، والاستعلامات السرية، والوظائف المدنية وغيرها… وكأننا به يطبق حرفيا « مشروع 2025 » لراسل فوغت !
أما المسدس الثاني فقد وجهه لباقي العالم من خلال حكومة اختار لها أكثر الأشخاص موالاة لسياسته المتطرفة، بدء من وزارتي الدفاع، والعدل، وانتهاء بسفير صهيوني لدى اسرائيل لا يفرق بين يافا وتل أبيب، ولا بين غزة والضفة المحتلة…
هذا الحشد غير السوي وغير المؤتلف من المستشارين والوزراء والمساعدين لم يتم اختيارهم صدفة، فهم مُرقُّون ماليون ناجحون مثله في صناعة وجمع الثروات، أو أشخاص يرون العالم من ثقب أمريكا، أو متهربون مثله من أحكام القضاء الأمريكي… كلٌّ يقع على شاكلته.. مستعدون لإطلاق النار على كل ما يتحرك أمامهم بما في ذلك الأصدقاء والحلفاء !..
خلال المائة ساعة الأولى من حكمه، وليس مائة يوم كما جرت التقاليد الأمريكية، قام بالتوقيع على جبل من القرارات، وأدلى بفيض من التصريحات، وأظهر على وجهه كل ما استطاع من التقطيبات والتكشيرات… والحقيقة أن العالم أصيب بالرعب خوفا من أن تكون عدوى جنون البقر أصابت الراعي… لكنه ككل كوبوي متبجح لحس كلامه حالما واجه مقاومة صلبة من أنداده…
فن التفاوض هو أحد مواهب ترامب، المرقي العقاري، الذي لا يتميز بمواهب كثيرة، باستثناء التهرب الضريبي، ولعبة الغلف، والتحرش الجنسي، وطبعا مراوغة الخصوم لخداعهم… ذلك ما حدث أمام صلابة كندا والمكسيك وباناما، حيث اكتفى بأقل المكاسب في انتظار المزيد. ولن يجد المزيد – وهو يعرف ذلك – سوى لدى أبقار الأنظمة العربية المنتفخة الجيوب، والتي تحتاجه لدعم أنظمتها الهشة، وهي مستعدة لشراء حمايته بحفنة من الدولارات حتى قبل بدء عملية التفاوض !..
غير أن هذه الصورة البراقة ذات الأنياب البارزة، تخفي وراءها خوف أمريكا على نفسها منه. أمريكا النخبة التي تشاهد باستغراب هذا الكوبوي المتبجح الذي يقف في ساحة القرية مع بعض المتطرفين من حكومته، مهددا السلام والاقتصاد والتقاليد الديبلوماسية في أرجاء العالم، بينما التهديد الحقيقي مسلط على الشعب الأمريكي الذي يفقد ملايين الوظائف جراء سياسته، ويخسر مداخيل ضريبية معتبرة، وتراجع في الاستثمارات والمبادلات التجارية، إلى جانب تنمر بعض الولايات من سياسته والتي قد تدفعها للانفصال أو ربما إلى حرب أهلية إذا تمت مواجهتها…
أمريكا في خطر ! هذه الصرخات تجد صداها في كبريات وسائل الاعلام الأمريكية، من طرف كتاب ومسؤولين محترمين، بل انتقل الصدى إلى أروقة الكونغرس، حيث بدأت بعض الأصوات تطالب بتنحيته أو على الأقل تحجيم غروره، وأصبح الكثير من الأمريكيين خائفين عليه من « الدولة العميقة » ذات اليد الطويلة…
وكما في النهايات التراجيدية لأفلام الويسترن سباغيتي، سيظهر Sheriff في الساحة ويلقي عليه القبض باسم « قانون القرية » أو يواجه في مبارزة Duel خصما أشطر منه، وحينها لن يبقى في الساحة سوى الغبار الذي أثاره.. غبار ترامب راعي البقر الطريف !..