من حظي أنني عرفت عن قرب بعض رجال الدولة، سواء وهم في السلطة أو خارجها، من أمثال عبد الحميد مهري، واحمد بن بلة، وامحمد يزيد، وطالب الإبراهيمي، ورضا مالك، وعبد اللطيف رحال… وغيرهم.
ومن حظي أيضا أنني عرفت مثقفين من طراز عالي من أمثال ابو القاسم سعد الله، وعبد الله شريط، ومحمد الميلي، وعبد المجيد مزيان، وأبو العيد دودو… وغيرهم.
وقد وجدت أن القاسم المشترك بين هؤلاء الرجال هو ثقافة الدولة. رجال مشبعون بتاريخ بلدهم، وثقافة شعبهم، وأفكار وإنتاج نخبتهم، فضلا عن وطنيتهم الصادقة التي لا تشوبها خيانة من نوع “المغلوب مولع بتقليد الغالب” حسب التعبير الخلدوني…
كل رجل من هؤلاء يعتبر مدرسة في السياسة والثقافة والمسؤولية، لا تجد فروقات كثيرة في سعة معارفهم، ولا في نزاهتهم ووطنيتهم، ولا في أخلاقهم الراقية التي لا تنزل أبدا لسفاسف القول…
تجد السياسي منهم مثقف، والمثقف منهم مشبع بالسياسة… وكلهم على مستوى عالي من روح المسؤولية حتى في حياته العادية، ومجالسه الخاصة، وقد حاورت العديد منهم، سواء كتابة أو مشافهة، فاندهشت لقدرتهم على صياغة أفكارهم بما قلّ ودلّ، ورؤيتهم الواضحة لمشاكل بلدهم داخليا وخارجيا، واطلاعهم على مستجدات العالم، وعلاقاتهم الممتدة شرقا وغرباً… وأكثر من ذلك كل واحد فيهم يعكس صورة الجزائر وتنعكس كبرياء الجزائر في سلوكه… وكلهم دون استثناء يفرضون عليك احترامهم بل والإعجاب بهم…
سقتُ هذه النماذج المعروفة لدى الأغلبية كي أوضّح فكرتي عن “رجل الدولة” بالمفهوم السياسي بالدرجة الأولى… فهو مشبع بجزائريته بالمعنى الواسع للكلمة، وجامع في شخصه شعب الجزائر بأعراقه وتقاليده وثقافاته الشعبية وتطلعاته الحضارية، وفوق ذلك كله تجدهم يستمدون قوتهم الشخصية من قوة بلدهم، ويحملون على كواهلهم قضايا وطنهم في المحافل الدولية…
لا نعرف عن أحد منهم إخلاله بمسؤولياته، أو سوء أخلاقه، أو تورطه في فساد ورشاوى واستغلال منصبه، أو تبجحه أمام شعبه بالسلطات المخوّلة له…
لعل القارئ الكريم يتوقف عند الإعجاب بهم… لا، هم ليسوا ملائكة ولا أولياء صالحين، بل هم نتاج دولة الثقافة، تلك الدولة الفكرية التي بدأ بناؤها في ظلال الحركة الوطنية، والتي تأسست على ثقافة المسؤولية، والنزاهة الشخصية، والأخلاق الثورية، والانخراط في هموم وحاجات الشعب، وتقديس مصلحة الوطن، وتغليب رأي الأغلبية، والتحلي بروح التضحية من أجل الصالح العام…
أليست هذه الصفات هي التي كان يتحلى بها زعماء الثورة التحريرية؟ من أين استمدوا كل تلك العزيمة والبصيرة والقدرة على المقاومة، وتحمل المسؤولية في أصعب الظروف؟
كانت دولة الثقافة، وهي سابقة للدولة السياسية، دروسها قليلة، ولكنها مفيدة جدا: الإيمان بما نعمل، والإرادة كي نعمل، والإتقان في العمل، واستشراف عواقب ما نعمل…
هذه هي الأبعاد التي تسند قامة رجل الدولة كي يقف باستقامة واستعداد بين أبناء شعبه…