سأحاول أن أتحدث بهدوء، وبأقل ما يمكن من كلمات، ذلك أنني تعبت من الكتابة، وتعبت من شرح المفردات…
أعرف أن الوقت غير مناسب، وأن البلد يمرّ بمرحلة خطيرة، وأن المؤامرات الداخلية والخارجية كثيرة، وأن الظرف لا يتحمل المزيد، وأن على الكاتب – كما يطلبون منه – المساهمة في رفع معنويات الناس وليس في إحباطها…
وماذا بعد ؟…
منذ متى كان الوقت مناسبا كي نتحدث بصراحة، وبصراحة قد تكون قاسية؟
و متى كان البلد يمر بمرحلة غير خطيرة كي يُسمحَ لنا بالحديث في شؤون وشجون حياتنا ؟
وهل توقفت يوما المؤامرات الداخلية والخارجية، في رأي النظام، كي نرتاح منها قليلا ونفككها ونلقي القبض على الفاعلين ؟…
متى يكون ذلك ممكنا، ومشروعا، ومعقولا، ومفيدا.. متى ؟…
منذ خمسين سنة ونحن نسمع نفس العبارات المكررة والمعلّبة، وبنفس التخويف غير المبرر، وإطلاق الكلمات النارية على كل رأي شجاع، وقمع كل نقد ورأي مختلف حتى ولو كان إيجابيا …
قضينا عمرنا على هذه الأرض نتمنى أن نرى وطننا خير الأوطان، ننعم فيه بغذاء جيد، وصحة سليمة، وتربية قويمة، واكتفاء ذاتي، واستقرار معنوي، وحرية كافية، وارتقاء فكري وجمالي…
وقبل ذلك كله، عشنا حياتنا كلها على أمل أن تتاح لنا فرصة كافية للمساهمة ب “مجهود حربي” في معركة الاستقلال، وتجنيد طاقاتنا في بناء دولتنا، والتفاعل الإيجابي مع مجتمعنا ومع عصرنا… كان يجمعنا هدف واحد وإن اختلفت الطرق: رؤية بلدنا معافى من جراح الاستعمار، متحديا التخلف والمهانة، متطورا ومزدهرا نرفل فيه بزهو المنتصرين، ونرفع اسمه عاليا بين بلدان العالم مفتخرين…
أليس هذا حقا من حقوق الانسان الطبيعية والسياسية والعادلة؟…
يا للفنتازيا، وَيَا للبارود العراسي !…
ومع ذلك، منذ خمسين سنة، ونحن محرومون من هذا الحق الآدمي، ضمن حرماننا من حقوق إنسانية كثيرة أخرى… وطيلة هذه السنوات عشنا بين أنياب الثقافة الاستعمارية التي انغرزت في رقابنا كما تنغرز أنياب الضواري في رقبة الضحية لا هي تقتلها فترتاح، ولا هي تتركها تتنفس فتعيش…
هل يا ترى – وأنا أتحدث هنا إلى جيلي – عندما كنا في منتصف السبعينيات، هل فكّرنا أننا بعد خمسين سنة سنطلّ على هذا الفراغ الذي نتأرجح الآن فوقه؟ وأن الجزائر ذات السمعة التي تعلو النجوم، والإرادة التي تهدُّ الجبال، والحماس الذي يشعل قلوب الرجال، والإمكانيات التي لا تُطال، والآمال التي لا تعلو عليها آمال… هل فكرنا في ذلك الوقت، ونحن شباب في أوج أحلامنا، أننا سنصل إلى هذا المُحال.. إلى هذا المآل ؟!…
تذكروا.. عندما كنا في منتصف السبعينيات، في فورة الاشتراكية، والثورات الاجتماعية، ونقاشات الدستور والميثاق الوطني، وجدل المثقفين حول الأصالة والهوية واللغة، وقلعة الثوار، والتحرر من مخلفات الاستعمار، وزعامة العالم الثالث… الخ. تذكروا تشي غيفارا وباتريس لومومبا وأبو ذر الغفاري وفرانز فانون، وغسان كنفاني، وابن رشد، وثورة الطلاب، وحرية الهيبيين، والفلسفة الوجودية… أي موزاييك تلك التي كانت تلون ثقافتنا، وأي قضايا كبرى تلك التي شغلتنا وأشعلت حماسنا، وفتحت أمام أرواحنا الفتية آمالا عالية الهِمّة، واعتقدنا أننا بعد خمسين سنة سنقطف نجوم المجد من مداراتها المستحيلة…
لا داعي لاتهام أنفسنا بأننا لم نقم بالواجب، أو أن الكفاءة والإخلاص والتضحية كانوا ينقصوننا، أو أننا قصّرنا في حق الوطن… لقد قمنا بما يسمح به الهامش المسموح به لنا، اجتهدنا وعملنا وبذلنا جهدنا ووقتنا وصحتنا، من أجل القيام بما هو مطلوب منا، وهو قليل لا يتجاوز المطالَب اليومية والعادية والهامشية، في وطن يحتاج للكثير من العمل والمبادرات والأفكار الجريئة… لم يرق المطلوب منا أبدا إلى الطاقات الكامنة فينا، ولا القضايا الكبرى التي كانت برنامج حياتنا، ولا لمستوى الرجال الذين كُنَّاهم.
ثمة أمر غريب دائم التكرار … كلما ساورتنا رغبة الاحتجاج، كلما احتالوا علينا بنفس العبارات المعلَّبة، والتخويف غير المبرر، وإطلاق إشاعاتهم تنهش أحلامنا ككلاب صيد، واخترعوا لنا “شغلا” وهميا لإشغالنا عن مطالبنا الحقيقية في بناء وطن خال من مكروبات الاستعمار، واستثمار ثرواتنا في مستقبلنا كي لا يسرقها منا أرباب الفساد، وإعطاء الأولوية للعمل وليس للاحتيال والكسل… تصوروا شعبا منشغلا بحل أزمات مفبركة من نوع ندرة وغلاء مواد معيشته، وقطع الماء والكهرباء على منازله، وتقليص مواد المعرفة في مدارسه، وقلقه الدائم على استقرار وظيفته، وتجفيف منابع تجارته ومهاراته، وتتفيه رموزه وقدوته، وتفريق شمل مواطنته بين القبائل والعشائر والجهات والأقاليم… وبعد ذلك كله صناعة عداوات داخلية وخارجية لإلهائه عن الاحتجاج على وضعه…
هل يا ترى وأنا أذكركم بذلك، أرفع فيكم منسوب الإحباط ؟
ليس قصدي يا أترابي وَيَا من عاشوا مثلي ورأوا انهيارات طموحاتنا على رؤوسنا كما ينهار منجم ذهب على رؤوس الباحثين عن الثروات !…
أريد فقط أن أذكركم أيها السادة، أننا في سنوات الفتوة والحماس، قبل خمسين سنة، كانت الجزائر أفضل وضعا وحظا من “نمور آسيا” و من الصين وتركيا والهند وبعض الدول الأوربية، والكثير من دول أمريكا اللاتينية… وكنا نحلم أننا بعد خمسين سنة – وهي قليلة في أعمار الدول – أننا سنختصر الزمن، ونقفز للصفوف الأولى بين دول العالم… كانت لدينا الارادة والرجال والإمكانيات والفرص الذهبية… ولكن…
أنا آسف إن تساءلت مثلكم: كيف اختفينا من ميدان السياسة العظيمة.. كيف أصبحنا بلدا عاديا؟…
الآن وأنا مثلكم، في آخر العمر، منزوع الأحلام، ومجرّدا من طموحاتي، اعترف لكم أنني لا أتمنى أن ترث الأجيال الجديد طموحاتنا الكبرى كي لا تدمر الانهيارات الكبرى حياتهم التي ألفوا قِلَّتِهَا…